الخميس، 4 ديسمبر 2008

عصمة الأنبياء والرسل عن المعاصى والذنوب

عصمة
الأنبياء والرسل عن
المعاصي والذنوب
من كتاب الفصل والملل لابن حزم وكتاب تنزيه الأنبياء للإمام أبى الحسن السبتى الأموي

*********************
جمع وإعداد
مصطفى محمد ربيع






رقم الإيداع بدار الكتب المصرية
( 5108/2008 )




عصمة
الأنبياء والرسل عن المعاصي والذنوب
***********
مقتطفات من كتاب
الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم وكتاب تنزيه الأنبياء لأبى الحسن السبتى الأموي
*************

جمع وإعداد
مصطفى ربيع
ت ـ 0161582029
ـــــــــــــــ


رقم الإيداع بدار الكتب المصرية
5108/2008
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
مقدمة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له من دون الله وليا مرشدا 0
وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير 00 وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله بلغ رسالة ربه وأدى الأمانة وكشف الله به الغمة ونصح الأمة
صلى الله عليه وعلى أله وصحبه وسلم تسليما كثيرا 0
أما بعد
أيها الأخوة الكرام :
فهذه مذكرة في تنزيه الأنبياء والرسل عن المعاصي التي يدعيها عليهم بعض الجهلاء من المنتسبين للمفكرين والمثقفين العلمانيين ليبرروا لأنفسهم فعل المعاصي وذلك بقولهم أن الأنبياء قد عصوا فيجدوا لأنفسهم فسحة من الفسق والفجور0


وقد عنيت في هذه المذكرة أن أنقل كلام أكثر من مصنف في هذا الأمر حتى لا يكون كلامي بدعا لأنه كلام يمس العقيدة وهو عن سلامة الأنبياء عن المعاصي 0
وقد أفردت لسيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم مذكرة منفصلة في ذلك تصدر تباعا إن شاء الله تعالى 0
فهذه المذكرة في توقير الأنبياء والرسل والدفاع عنهم ورفع الشبهات والذود والذب عن أنبياء الله ورسله الذين أنعم الله عليهم واصطفاهم واجتباهم ليبلغوا رسالات الله0
وهى مذكرة في العقيدة لأن الإيمان برسل الله والدفاع عنهم من معتقدات أهل السنة والجماعة وهذا ما عليه أهل الإسلام من أهل السنة والمعتزلة والنجارية والخوارج والشيعة وبعض علماء الأشاعرة على أنه لا يجوز أن يقع من نبي أصلا معصبة بعمد لا صغيرة ولا كبيرة0
ـ وهذا القول هو الذي ندين به لله عز وجل ولا يحل لأحد أن يدين بسواه0
وقد يقع من الأنبياء السهو من غير قصد0
وقد يقع منهم السهو بقصد يريدون وجه الله تعالى والتقرب من الله فيوافق غير مراد الله0
إلا أن الله تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلا بل ينبههم على ذلك اثر وقوعه منهم فيظهر لهم الله عز وجل خطأهم ويبينه لهم ليبلغوه لعباده 0
ـ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة من تسليمه من اثنتين وقيامه من اثنتين وشرع لنا في هذا سجود السهو0
وكما عاتب الله النبي صلى الله عليه وسلم في قصة عبد الله ابن أم مكتوم عندما عبس وتولى وسيأتي ذكر ذلك تباعا إن شاء الله0
ـ وكما عاتب الله النبي صلى الله عليه وسلم عند زواجه من زينب بنت جحش رضى الله عنها وسيأتي ذكر ذلك بالتفصيل إن شاء الله تعالى في المذكرة المنفصلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم0
ـ ومن الطوائف التي زعمت أن الأنبياء يعصون في الكبائر والصغائر عمدا : ـ طائفة من المرجئة والكرامية فقد قالوا أن رسل الله يعصون في جميع الكبائر والصغائر عمدا إلا الكذب في تبليغ الرسالات فقط 0
ـ وهذا القول أيضا هو قول ابن الطيب الباقلانى من الأشعرية ومن اتبعه وهو قول اليهود والنصارى 0
ـ ومن الكرامية أيضا من يجيز على الرسل الكذب في تبليغ الرسالات وقد كان ابن الطيب الباقلانى يقول إن كل ذنب دق أي كان صغيرا أو جل أي كان كبيرا فانه جائز على الرسل إلا الكذب في التبليغ فقط 0
ـ وقال أيضا وجائز عليهم أن يكفروا وقال وإذا نهى نبي عن شيء ثم فعله فليس ذلك دليلا على أن ذلك النهى قد نسخ لأنه قد يفعله عاصيا وجوز أن يكون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من هو أفضل منه 0
وهذا كله كفر مجرد وشرك محض وردة عن الإسلام موجبة للبراءة منه ومن أتباعه ومن قال بقوله أو نهج نهجه 0
ـ وذهبت طائفة إلى أن رسل الله عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم كبيرة من الكبائر أصلا وجوزوا عليهم الصغائر بالعمد وهو قول ابن فورك الأشعرى0
ـ وهذه الطوائف جميعا التي ادعت أن الأنبياء يعصون كسائر البشر احتجت بآيات من القرآن الكريم وأخبار قد وردت ونحن إن شاء الله تعالى نذكرها ونبين خطأهم فيها بالبراهين الواضحة وبالله تعالى التوفيق0

فقد كرم الله سبحانه وتعالى الأنبياء والرسل في أكثر من موضع في كتابه العزيز ووعدهم بنصره ، واصطفاهم على خلقه فقال سبحانه وتعالى في اختيارهم وتمييزهم على خلقه :
( اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) (75 ) الحج
ووعدهم عز وجل بنصره فقال عز من قائل :
(إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (51 ) غافر
وقال تعالى فيما وعدهم فيه أنه لن يخلف وعده :
( فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَه ُ ۗ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ) (47إبراهيم
وأرسل الله تعالى الرسل بالحق وبالكتاب المبين وليبنوا للناس عبادة الله الواحد الأحد الفرد الصمد
فقال سبحانه وتعالى
(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً ۖ وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ) 119 البقرة


وقال عز وجل :
( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ( 25 الأنبياء
وأرسل الله الرسل لتطاع بإذنه فقال تعالى :
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً ) (64 ) النساء
ومن عدل الله تعالى أنه أرسل الرسل بلسان أقوامهم حتى تتجلى الحجة وتقام عليهم فقال سبحانه وتعالى :
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (4 ) إبراهيم
فقد كرم الله سبحانه وتعالى رسله وأمر بتوقيرهم وبين لنا أن من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فان الله عدو للكافرين فجعل أعداء الله أعداء رسله وأنبيائه من الكافرين0
وحذر سبحانه وتعالى أن من خاض في آيات الله واستهزأ بها وسخر من رسل الله صار كافرا حلال الدم والمال حتى ولو كان من أمة محمد صلى الله عليه وسلم0 قال الله تعالى مخاطبا الذين أمنوا خاصة والناس كافة :
( وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ) (66) التوبة
وبين الله سبحانه وتعالى على العموم أن من استهزأ بآيات الله من أمة محمد صار على النفاق ويحشر مع الكافرين ، وحذرنا سبحانه وتعالى من الجلوس مع من يخوض ويستهزأ بآيات الله عز وجل0
قال الله تعالى : وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140 ) النساء
فقد عصم الله أنبيائه وكرمهم وأمرنا بإتباعهم وحثنا على حبهم وطاعتهم وأمرنا بنصرهم وتوقيرهم والدفاع عنهم0
وما سعى قوم من النيل من نبيهم أو رسولهم أو خاضوا فيه أو استهزأوا به أو سخروا منه وسعوا إلى هلاكه أو الطعن في سيرته أو تركوا التمسك بسنته إلا أخذهم الله بالعذاب والهلاك والتشرد والغرق والخسف والصيحة والزلازل والبراكين والريح
العاصفة والعذاب المعنـوي والمادي الذي لم يكن في الأمم السالفة من ضيـق في العيش ونكد الدنيا وتسليط الأعداء عليهم والأمراض التي لم تكن في الأمم السالفة،والسفاهة في التصرف في الأموال والأمور التي بسببها يكون الخلل في ضروريات الحياة التي منها حفظ الدين والنفس والنسـل والعقل والمال والتي إذا ما حدث خلل فيها أو في إحداها في أي مجتمع صغيرا أو كبيرا إلا كان الضيق والنكد وعدم استقرار المجتمعات إلا أن الله سبحانه وتعالـى يمهل الناس ويؤخر عنهـم العذاب لعلهـم يتوبوا ويرجعوا 0
قال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لرؤوف رَّحِيمٌ) 65 الحج
فقال سبحانه انه بالناس لرؤوف رحيم ولم يقل بالمؤمنين أو بالمسلمين فحسب بل بالناس جميعا لرؤوف رحيم ولم يخص مؤمــن من كافـر بل رحيم بخلقه جميعا إلا أنه عزيز ذو انتقام كما ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام البخاري : حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ قَالَ ثُمَّ قَرَأَ :
{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }
فان الله إذا أخذ الظالم أخذه أخذ عزيز مقتدر وان أخذ الله أليم فنعـوذ بالله من ذلك0
ـ فاعلم أخي المسلم أن محبة الأنبياء والرسل وطاعتهم والتمسك بما
جاءوا به سبب في الحياة الكريمـة في الدنيا والفوز والنجاة في الآخرة0فان من سلامة المعتقد محبة الأنبياء جميعهم وتنزيههم عن المعاصي والذنوب مع إحسان الظن بهم جميعا ومع الاعتقاد بأنهم أفضل خلق الله جميعا بعد الملائكة وأن الله اصطفاهم على العالمين وأنهم بلغوا رسالات الله وأنهم لا يخشون إلا الله و لا نفرق بين أحد منهـم ونحن له مسلمون وصلى الله وسلم عليهم جميعا من لدن أدم عليه السلام إلى نبينا محمــد صلى الله عليه وسلم0
اللهم انى بلغت اللهم فاشهد
واجعلنا اللهــم من الذين يطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم0 واجعلنا اللهم مع الذين أنعمت عليهـم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
قال الله تعالى:(وَمَن يُطِــع الله وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ الله عليهـم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
وحسن أولئك رفيقا) 69النساء
اللهم اجعل رفقتنا في الآخرة مع النبيين وفى الدنيا والآخرة مع الصديقين وفى الآخرة مع الشهداء وفى الدنيا والآخرة مع الصالحين0امين يارب العالمين0
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم تسليما كثيرا0
ــــــــــــــــــــ










ا لكلام في ادم عليه السلام
احتجوا في أدم عليه السلام بقول الله تعالى :
(فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (121 طه )
ـ فقالوا وقد عصى أدم وغوى0
وقوله تعالى: ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35( البقرة
ـ قالوا فقربها أدم وزوجه فكانا من الظالمين0
وقوله تعالى :(فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) 37البقرة قالوا والمتاب لا يكون إلا من ذنب0
وقوله تعالى:
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُستَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) 36البقرة
فادم عندهم أدم عليه السلام عصى وغوى وظالم لنفســه وأذنب وتاب وأزله الشيطان 0
ـ واحتجوا أيضا بقول الله تعالى:
(فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فتعالىا لله عما يشركون (190(الأعراف
هذا كل ما ذكروه في أدم عليه السلام00
ونحن إن شاء الله نبين غلطهم فيما ادعوه على أبو البشر أدم عليه السلام 0
فنقول وبالله تعالى التوفيق: أما قول الله تعالى :
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) 121طه
قد علمنا أن كل خلاف لأمر أمر فصورته صورة المعصية0أي من خالف الأمر فقد عصى0
ويسمى بذلك معصية لخلافه الأمر وغواية0إلا أنه ما يكون ذلك عن عمد فهذه معصية على الحقيقة لأن فاعلها قاصدا إلى المعصية وهو يدرى أنها معصية وهذا ما نزها الله عن الأنبياء عليهم السلام 0 ومن المعصية ما يكون عن قصــد إلى خلاف ما
أمر به وهو يتأول في ذلك الخير ولا يدرى أنه عاص بذلك بل يظن أنه مطيـع لله تعالى أو أن ذلك مباح له لأنه يتأول إن
الأمر الوارد عليه ليس على معنى الإيجاب ولا التحريم لكن إما على الندب إن كان بلفظ الأمر 0
أو الكراهة إن كان بلفظ النهى وهذا الشيء يقع فيه العلماء والفقهاء والأفاضل كثيرا 0
ـ فإذا كانت المعصية عن قصد للمخالفة فهي معصية على الحقيقة 0
ـ وإذا كانت المعصية عن غير قصد لمخالفة الأمر فليست معصية على الحقيقة 0
وعلى هذا السبيل أكل أدم عليه السلام من الشجرة متأولا أنها طاعة لله وليست معصية 0
ومعنى قوله تعالى ( فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ) 35 البقرة
أي ظالمين لأنفسكما00
والظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه فمن وضع الأمر أو النهى في موضع الندب أو الكراهة فقد وضع الشيء في غير موضعه0 وهذا الظلم من هذا النوع من الظلم الذي يقع بغير قصد وليس بمعصية 0
لا الظلم الذي هو القصد إلى المعصية وهو يدرى أنها معصية0
الدليل على هذا : ما قد نص الله تعالى عليه من أن أدم عليه السلام لم يأكل من الشجرة إلا من بعد أن أقسم له إبليس أن نهى الله عز وجل لهما عن الأكل من الشجرة ليس على التحريم وأنهما لا يستحقان بذلك عقوبة أصلا بل يستحقان بذلك الجزاء الحسن وفوز الأبد 0
قال الله تعالى حاكيا عن إبليس:
( فوسوس لَهُمَا الشَّيْطَانُ) 20 الأعراف
وقد قال الله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عزما 115 طه
فلما نسى أدم عليه السلام عهد الله إليه في أن إبليس عدو له أحسن الظن بيمين إبليس له ناسيا عهد الله0
ومن الذنب أن يحلف لك أحد ويقسم بالله ثم تظن أنه حانثا في يمينه0
وهكذا فعل أدم عليه السلام فانه إنما أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ناسيا بنص القرآن ومتأولا وقاصدا إلى الخير لأنه قدر أن يزداد حظوة عند الله تعالى فيكون ملكا مقربا أو خالدا فيما هو فيه أبدا فأداه ذلك إلى خلاف ما أمره الله عز وجل به وكان
الواجب أن يحمل أمر ربه على ظاهره لكن تأول وأراد الخير فلم يصبه0
ولو فعل ذلك عالما من علماء المسلميـن لكان مأجورا0
ولكن أدم عليه السلام لما فعله ووجد به إخراجه من الجنة إلى نكد الدنيا كان ذلك ظالما لنفسه0
وقد سمي الله قاتل الخطأ قاتلا وهو لم يتعمد معصيـة وجعل في الخطأ العقوبة كفارة عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين لمن عجز عن الرقبة والدية وهو لم يتعمد ذنبا ولا معصية0
وأما قوله عز وجل :
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِـحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فتعالى الله
عما يشركون 190 الأعراف
فهذا تكفير لآدم عليه السلام ومن نسب لآدم عليه السلام الشرك والكفر فقد كفـر كفرا مجردا بلا خلاف من أحد من الأمـة ونحن ننكر على من كفر المسلمــين العصاة
فان من عقيدة أهل السـنة والجماعة أن لا يكفــر أحد بمعصية ولا نكفـر مرتكب الكبـيرة حتى ولو كان مصرا عليها ولكن إذا استحلها أو استحل الصغـــيرة كفر إجماعا من أهل السنـة والجماعة فكيف من كفر الأنبياء عليهم السلام
وهذا الذي نسبوه إلى آدم عليه السلام من أنه سمي ابنه عبد الحارث خرافة موضوعة من تأليف من لا دين له ولا حياء لم يصح سندها قط وإنما نزلت في المشركين على ظاهرها وحتى لو صح أنها نزلت في آدم وهذا لا يصح أصلا لما كانت فيه للمخالف حجـة لأنه كان يكون الشرك أو الشركـاء المذكورون في الآية حينئذ على غير الشرك الذي هـو الكفر لكن بمعنى أنهما جعلا مع توكلهما شركة من حفظـه0ومعناه كما قال يعقوب عليه السلام فى قول الله تعالى :
                                      •                   علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (69)
فأخبرنا عز وجل أن يعقوب عليه السلام أمرهم أن يدخلوا من
أبواب متفرقة إشفاقا عليهم إما من إصابة الحسد لهم وإما من تعرض عدو أو مستريب باجتمـاعهم أو ببعض ما يخوفه عليهم
وهو عليه السلام معتـرف أن فعله ذلك وأمره إياهم بما أمرهم
به من ذلك لا يغني عنهم من الله شيئا يريده عز وجل بهم ولكن لما كانت طبيعة البشر جارية في يعقوب عليه السلام وفي سائر الأنبياء عليهم السلام0
كما قال تعالى حاكيا عن الرسل أنهم قالوا:
                                إبراهيم
حملهم ذلك على بعض النظر المخفف لحاجة النفس كما كان عليه السلام يحب الفأل الحسن ولم تنزل الآية قط إلا في الكفار لا في آدم عليه السلام0
فهذه الطوائف الضالة قد اختلفت في قصة أدم اختلافا كثيرا لا
يكاد ينضبط وذلك لأن الله تعالى ما نص على معصيـة لنبي إلا
لآدم عليه السلام خصوصا وهذا أقل ما نسبوه لآدم عليه السلام
فصل :
و كان أول ما ينبغي أن نقدم أن آدم عليه السلام لم يكن عندما أكل من الشجرة نبيا0
والعصمة لا تشترط للنبي إلا بعد ثبوت النبوة له0
فمن الناس من ذكر الإجماع على أنه لم يكن نبيا عندما أكل من الشجرة ومنهم من اكتفى بظاهر قوله تعالى ثم اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) طه 122
وهذا عطف بثم التي تعطي المهلة و تفيد التعقيب على التراخي ثم ذكر الاجتباء والهداية0
والاجتباء هنا النبوة بدليل قوله تعالى في سورة مريم عليها السلام عندما عدد الأنبياء عليهم الســلام ومناقبهم على التفصيل0
وقال الله تعالى: (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا) 58 مريم
يعني من النبيين جميعهم0
فاجتباه ربه وهذا وجه من الوجوه يثبت أكله من الشجرة قبل نبوته
ــــــــــــــــــــــــ

فصل:
والذي ينبغي أن يعول عليه في قصة آدم عليه السلام أن نهيـه عن الشجرة كان نهي إرشاد وإعلام على جهـة الوصـــية
والنصيحة لا على جهة التكليف فإنه ما صح تكليفه في الجنة ولا نبوته في كتاب ولا سنة0
والأوامر والنواهي تنقسم إلى مشروع وغير مشروع كالأوامر اللغوية فإن السيد قد يقول لعبده والأخ لأخيه والصاحب لصاحبه على جهة الإعلام والإرشاد والنصيحـة افعل كذا واترك كذا تسلم من كذا وتظفر بكذا وكذلك أوامر الأطباء للعليل بالدواء والغذاء إلى غير ذلك 0
ـ فكان أمر الله تعالى لآدم عليه السلام بسكنى الجنان والأكل الرغد ولله المثل الأعلى ونفوذ المشيئة من باب الإعلام والتأنيس بالبشارات بأنه لا يجوع فيها ولا يعرى ولا يظمأ ولا يضحى0
وكان نهيه له على جهة الإرشـاد المتقدم ذكره أو التحذير مما تؤول إليه عقباه إن فعل ما نهي عن فعله في خروجه عن الجنة وشقائه في الدنيا والإعلام بمكيدة الشيطان والتحفظ منه وكونه عدوا له وهذا معلوم في اللسان وما جرت به العادات0
وقد أمر الله تعالى إبليس بقوله :
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بخيلك ورجلك وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وعده 64 الإسراء
فهذه أوامر على جهة الوعيد له والتهديد كقولـــه تعالى
للكفار: ( اعملوا ما شئتم ) 40 فصلت
وليست بتكليف إذ لو كانت على جهة التكليف بفعلها لكان وقوعها منه طاعة وهو عاص في هذه الأفعال إجماعا0
وقد أمر الله موسى عليه الســلام بأخذ الحـية ونهاه عن الخوف منها حيث قال له سبحانه وتعالى:
(خذها ولا تخف) 21طه
والخوف أمر ضروري فلا يقع الأمر به جزمـا فكان الأمر له
على جهة التأنيس والإعلام بأنها لا تؤذيه إذا أخذها وكان مكلفا إذا ذاك ولم يكن ذلك الأمر والنهي له مشروعين0
وكذلك قوله تعالى:
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ
وقول الله تعالى :( فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني 7القصص
وكذلك قوله عليه السلام في الصحيح إذ رأى رجلا يقطعه الآل أي سافر وطال انتظاره ورآه النبي صلى الله عليه وسلم قادما عن
بعد0فقال كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة فهذا أمر على وجه الخير كأنه يقول هذا أبو خيثمة إلى غير ذلك.
ويكفيك أن الآخرة ليست بدار تكليــف وليـس فيها أوامر
ونواه مثل قوله تعالى للمؤمنين على جهة البشارة :
ادخلوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) 70 الزخرف وقوله تعالى: (ادخلوها بسلام آمنين ) 46 الحجر
وقوله تعالى للكافرين على جهة التغليظ والترويع:
( فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين 29النحل
وقوله تعالى : قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ) 108النمل
على جهة التحقير والخزي
وقوله تعالى على جهة التصيير لأصحاب السبت:
( كونوا قردة خاسئين ) 65البقرة
وقوله تعالى على جهة التعجيز :
قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً 150الاسراء
إلى غير ذلك من أنواع الأوامر والنواهي0
وإذا كان هذا فمن أين لقائل أن يقول إن نهي آدم عليه السلام كان على جهة الحظر أو الكراهة
فإن احتجوا بقوله تعالى إنه عصى وغوى وظلم نفسه0
قلنا إذا لم يثبت تكليفه في الجنة فتخرج هذه الألفاظ على مقتضى اللغة فإن المعصية في اللسان معناها: عدم الامتثال كانت
مقصودة أو غير مقصودة0
وظلم النفس:غبنها وبخسها في منافعها لكونه وضع الفعل في غير موضعه0
وكذلك غوى: أدخل على نفسه الضرر 0
فعلى هذه الوجوه تخرج هذه الألفاظ0
فإن قيل إذا خرجتم هذه الألفاظ على هذه الوجوه فما قولكم في قوله تعالى :
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ 36البقرة
وفي قوله تعالى : فَدَلاَّهُمَا بِغُرُور إلى غير ذلك0
فنقول: تخرج هذه الألفاظ أيضا على جهـة قصـد الشيطان والتعريض بالوسوسة إليه لا على قصد القبول من آدم عليه السلام لوسوسته وخدعه فإن الشيطان قد يوسوس إلى الأنبياء ولكن لا يقبلون منه0
قال تعالى لنبينا عليه الصلاة والسلام:
(وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بالله 36 فصلت
وقال له سبحانه وتعالى:
( وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ) 97المؤمنون

ـ جملة الأمر أنه إذا لم يثبت تكليف لم يثبت إيجاب ولا حظر ولا طاعة ولا معصيـة يقع فيها ذم شرعي ولا مدح ولا ثواب ولا عقاب وهذا ما أجمع عليه أهل السنة0
فصل :
فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الله تعالى:
ـ نهى أدم عن الأكل من الشجـرة على جهـة الإرشاد والإعلام والنصيحة لا على نهى التكليف الذي يأثم فاعلـه ويعاقب ويذم شرعا 0
ـ وسوس إليه الشيطان على جهة الإغواء والحسد والمكـر فلم
يقبل أدم عليه السلام منه0
ـ ثم أنساه الله تعالـى بعد ذلك إرشاده إياه ووصيته له ووسوسة الشيطان إليه فأكل منها غافلا عن الوسـوسة0
فإن الناسي لا طلب عليه في الشرع ولا ذم بالإجماع0
والدليل على أنه نسي قوله تعالى :(وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( 115طه
يعني عهدنا إليه في أمر الشجرة فنسي العهد فأكل منها من غير عزم على أكلها وغير متعمدا لذلك0
انتهى الكلام في أدم عليه السلام
الكلام في نوح عليه السلام
قالوا في نوح وذكروا قول الله عز وجل لنوح :
( فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم ) 46هود
وهذا لا حجة لهم فيه لأن نوحا عليـه السلام تأول وعد الله تعالى أن يخلصه وأهله فظن أن ابنه من أهله على ظاهر القرابة وهذا لو فعله أحد لكان مأجورا ولم يسـأل نوح تخليص من أيقن أنه ليس من أهله فتفرع على ذلك نهي عن أن يـكون من الجاهلين فتندم عليه السـلام من ذلك وفزع وليس ها هنا عمد للمعصية البتة وبالله تعالى التوفيق 0
************
شرح قصة نوح عليه السلام
في محاورتـه مع ابنه الكافر وسؤاله ربه في أمره وكذلك في دعائه على قومه0
قال تعالى :( ونادى نوح ابنـه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء
قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ) 42 , 43 هود
ـ قالوا كيف يصح أن يقـول له نوح اركب معنا فيأبى ويظن
أن الجبال تعصمـه من الغرق مع قول أبيه له ولا تكن مع الكافرين وفي إمكانه أن يركب مع أبيه السفينـة مع عقوق
أبيه والرد عليه واعتصامه بغير السفينة دليل على إثبات كفره إذ لو صدق أباه في أن النجاة في السفينة والهلاك في غيرها لم يقل ذلك0
ـ وفي قوله أيضا مع اعتقاده أن الجبال تعصم من الماء تسفيه حلم أبيه في صنع سفينة النجاة إذ لو كان في اعتقاد ابنه أن الاعتصام بغير السفينة أوقع وأضمن له في النجاة لكان الاعتصام بالسفينة سفها من جهة الضيق والشك في النجـاة على متنها ، ونوح عليه السـلام أعلم الناس بهذه الوجـوه وهذه القرائن من أحوال ولده وأقواله فإنها تدل على كفـر ولده بتكذيبه إياه وتسفيه حلمه وإذا كان هذا فكيف يسوغ له عليه السلام أن يقول بعد ذلك رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق يعني في سلامة أهلي وقد قيل له قبل ذلك إلا من سبق عليه القول وأقوال ابنه وأحواله تدل على أنه ممن سبق عليه القول 0
وكذلك قوله تعالى :( وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِين ظلموا إنهم مغرقون) 37 هود
وابنه من الذين ظلموا0
فالجواب: : أن نوحا عليه السلام حين ركب السفينة وأدخل فيها المؤمنين وأهله كما أمره ربه رأى ولده في جهة من خارج السفينة وبمقربة منها حيث يسمع النداء ولم ير امرأته فيئس من سلامتها وظن أنها هي المستثناة وحدها وأنها هي التي سبق عليها القول من الله تعالى بختم الكفر والعذاب فقط وطمع في إيمان ولده الذي كان عهد منه قبل ذلك وكان ولده يظهـر له الإيمان ويبطن الكفر ، والأنبياء عليهم السلام إنما عنوا بالظواهر والله يتولى السرائر، فلما لم ير امرأته يئس من سلامتها ولما رأى ولده بمقربـة من السفينة حيث يسمع النداء طمع في سلامتـه وحسن الظن أنه مؤمن فقال يا بني اركب معنا يعني في السفينة ولا تكن مع الكافرين أي لا تبق في الأرض فتهلك مع الكفرة و في قوله له ولا تكن مع الكافرين دليل على أنه كان يعتقد إيمانه فلما قال له سآوي إلى جبل يعصمني من الماء حسن أيضا به الظن بأنه كان يعتقد أن ما أخبر به أبوه من هلاك الكفرة صحيح وأن المؤمن يسلم بإيمانه فظن هو أنه يسلم في السفينة
وغيرها فقال له أبوه لا عاصم اليوم من أمر الله يعني من مراد الله هلاك الكفرة إلا من رحم يعني من رحمـه الله فسلم بإيمانه ولم يقل إلا من ركب السفينة فاحتمل القول جواز سلامة المؤمن في
السفينة وغيرها فلم يقع من الولد تكذيب ظاهر لأبيه في هذا ولا تسفيه لحلم أبيه في النجاة بالسفينة ولكن النجاة كما وردت الآيات في أنه لا عاصـم اليوم من أمر الله إلا من رحم أي إلا من رحمـه الله ولم يقل إلا من ركب السفينـة ، مع أن الأمر من الله بالنجاة من الغرق في ركوب السفينة0
بقوله تعالى:(حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبـق عليه القول ومن أمن وما أمن معـه إلا قليل ) 40هود
والظاهر عند نوح عليه السلام أنه لم يقع تكذيب من أبنه له في هذه المراجعة مع هذه الاحتمالات ثم حال بينهما الموج في الحين فظن نوح عليــه السلام أنه قد كان يدخل معه السفينة لولا ما حال بينهما الموج فلما حال بينهما الموج لم يدر ما صنع الله به وبقي مستريبا في إيمانه فقال بعد ذلك رب أن ابني من أهلي يعني في النسب وإن وعدك الحق في سلامـة أهلي بإيمانهم وأنت أحكم الحاكمين0
ـ إن كان الحكم هنا من الحكمة التي هي العلة فمعناه أنت أعلم العالمين بحاله ومعتقـده0
ـ وإن كان الحكم القهر بالإرادة والقــدرة فمعنـاه أنت
أقهر القاهرين الذي لا راد لأمرك ولا معقب لحكمك0
وفي ضمن هذا كله سؤاله ربه ورغبته في أن يطلعــه على عاقبة أمر ولده كيف كانت0
فأطلعـه الله على ذلك فقال يا نوح إنه ليس من أهلك يعني في الدين لا في النسب.. إنه عمـل غير صالح يعني أن عمله غير صالح لكن سماه باسم صفته الغالبـة عليه وقد قرئ إنه عمل غير صالح بفتح اللام على معنى الخبر عن عمله 0
فأعلمه الله تعالى بحاله ومآله ثم أدبه تعالى ووعظه وعلمــه فقال له :(فلا تسألن ما ليس لك به علم) 46هود
من هذا الوجه تخرج قولة الخضر لموسى عليهما السلام:
( فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا )
وذلك أن موسى عليه السلام طلب منه علما لم يكلف طلبـه إذ لا يجوز لطالب العلم المكلف بطلبه السكوت عن سؤال علم يلزمه ولا يجوز للمعلم أيضا أن ينهاه عن السؤال فيما كلف العلم به0
ـ فخرج من ذلك أن نوحا عليه السلام سأل في أمر ولده عن علم لا يلزمه فنهاه الله تعالى أن يسأل عما لم يكلف العلم به ثم
حذره تعالى أن يفعل ذلك على جهة النزاهة لا على الحظر فقال
إني أعظك أن تكون من الجاهلين يعني الذين يتعصبون لعاطفة الرحــم حتى يسألوا عما لم يكلفوا العلم به0
فقد قام بحمد الله عذر نوح في سؤاله عن رفع الإشكال وإجابة ربه تعالى إياه في إعلامه بمآل ولده وعاتبه ألا يعـود لمثل ذلك واستعاذ هو بربه ألا يفعل مثل ذلك0
ولله تعالى أن يعتب على أنبياءه ويؤدبهم ويحذرهم ويعلمهم من غير أن يلحق بهم إثم ولا ذنب0
فصل :
في شرح ما جاء من دعائه على قومه وامتناعـه الشفاعة الكبرى في الآخرة من أجل الدعاء على قومـه بالهلاك0
ــــــ
في دعاء نوح عليه السلام على قومه :
وأما قصته عليه السلام في دعائه على قومه حين قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا فأجابه ربه فيهم فجاء في الخبر أنه احتمل أذاهم ألف سنـة إلا خمسين عاما كما أخبر تعالى
وهو يقول مع ذلك رب اهد قومي فإنهـم لا يعلمون ومعلوم أن دعاء المؤمن على الكافر مباح لا ذنب فيه صغيرا ولا كبيرا 0
لا سيما بعدما قيل له أنه لن يؤمـن من قومك إلا من قد آمن
فلما قطع بكفرهم دعا عليهم0
وإذا كان الدعاء على الكفرة على الإطلاق مباحا كان أحرى إذا وقع القطع على كفرهم بالخبر الصدق0
وقد دعا رسول الله على ( مضر) الذين قتلوا القراء0
وكذلك موسى عليه السلام دعا على فرعون وملأه0
على أن دعوة نوح عليه السلام رحمة عللها هو إذ دعا فقال إنك إن تذرهم يضلوا عبادك يعني يضلوا من آمن من قومه بكثرة الشرك فربما رجع منهم إلى مذهبهم وقد يكون العباد هنا المولودين على الفطرة الذين إذا أدركوا وكبروا يكفـرون بكفر آبائهم كما ورد في قول الله تعالى: ـ
( ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) 27 نوح
وهذا دعاء مباح مع ما فيه من الرفق بالغير وطلب السلامـة للبعض وقد عده هو ذنبا وذلك لأنه رأى أن سكوتـه وصبره عليهم كان أولى به حتى ينفذ فيهم حكم ربهم بما شـاء0 ويحتمل أن يعده ذنبا لكونه لم يؤمر به كما عد موسى عليه
السلام قتل الكافر ذنبا لكونه لم يؤمر به فيقول قتلت نفسا لم يأمرني الله بقتلها فهذا رحمك الله أدل دليل على صحة ما ذكرناه في أن الأكابر يصيرون بعض المباحات ذنوبا من باب الأولى0
والأحرى إذ الدعاء على الكفرة مباح إجماعا0
فصل :
ثم إن لله تعالى أن يعاتب أنبياءه وأصفياءه ويؤدبهـم كما تقدم ويطلبهم بالنقير والقطمير أي يطالبهم سبحانه وتعالى بالصغير من الأفعال الدقيقة التي يتجاوز فيها سبحانه لعباده من دونهم من غير أن يلحقهـم في ذلك نقص من كمالهم ولا غض من أقدارهم حتى يتمحصوا للعبودية والقيام في نطاق التبليغ بالرسالات0
ألم تر كيف نهى الله تعالى نبينا عن النظـر لبعض المباحات فقال سبحانه وتعالى :
لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) 88 الحجر
ونهـاه أن يتبع النظـرة الأولى ثانية فقال :
( ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا 28 الكهف
مع قوله تعالى في مقام أخر:(قل من حرم زينـة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) 32 الأعراف
فإذا لم يحرم أكل الطيبات والتمتع بالزينة إذا كانت من كسب
الحلال والنظر في الحسن من التمتع والزينـة فكيف يحرم النظر
إليها لكن كما قال العلماء حسنات الأبرار سيئات المقربين0
جاء في الصحيح: أن النبي قال يوم الفتح:ما كان لنبي أن يكون له خائنة الأعين 0
يعني الإشارة بالعين في الأوامر حتى يفصح بها0
والإشارة بالعين في الأوامر مباحة لكنـه يجري عنها تنزها وتأكيدا لرفع الالتباس وهي مباحة لغير الأنبياء0
ـــــــــ
الكلام في إبراهيم عليه السلام
ـ ذكروا ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن إبراهيم عليـه السلام كذب ثلاث كذبات 0
ـ وأنه قال إذ نظر في النجوم أنى سقيم .
ـ و بقوله في الكواكب والشمس والقمر هذا ربي0
ـ وبقوله في سارة هذه أختي0
ـ وبقوله في الأصنام إذ كسرها بل فعله كبيرهم هذا.
ـ وبطلبه إذ طلب رؤية إحياء الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي 0
نقول وبالله تعالى التوفيق:
ـ أما الحديث أنه عليه السلام كذب ثلاث كذبات فليس كل
كذب معصية بل منه ما يكون طاعـة لله عز وجل وفرضا واجبا يعصى من تركه0
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا0
وقد أباح عليه السلام كذب الرجل لامرأته فيما يستجلب به مودتها0
وكذلك الكذب في الحرب على العدو0
وقد أبيح الكذب في إظهار الكفر في التقية ( مخافة أن يعرف الكفار أنه مؤمن فيقتلوه إذا كان بين ظهرانيهم )
وكل ما روى عن إبراهيم عليه السلام في تلك الكذبات فهو داخل في الصفة المحمودة لا في الكذب الذي نهى عنه0
ـــــــــــــــ
ـ وأما عن قوله عن سـارة هي أختي... فصدق هي أختـه من وجهين0
( إنما المؤمنون أخوة ) 10الحجرات
وقال عليه السلام لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه0
والوجه الثاني : القرابة وأنها من قومه ومن مستجيبيه0
قال عز وجل: ( والى مدين أخاهم شعيبا) 85 الأعراف
فمن عد هذا كذبا مذموما من إبراهيم عليه السلام فليعده كذبا من ربه عز وجل وهذا كفر مجرد0
فصح أنه عليه السلام صادق في قوله سارة أخته0
ـــــــــــــــــ
وأما قوله وتعالى:
(فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم 88 ،89 الصافات
فليس هذا كذبا ولسنا ننكر أن تكون النجوم دلائل على الصحة والمرض وبعض ما يحدث في العالم من تولد المد والجزر على طلـوع القمر وغروبه وانخفاضه وارتفاعه وزيادته ونقصه بإذن الله وإنما المنكر قول من قال أن الكواكب هي الفاعلة المدبرة لذلك دون الله تعالى أو مشتركة معه فهذا كفر من قائله 0
وأما قوله عليه السلام بل فعله كبيرهم هذا : فإنما هو توبيخ لهم كما قال تعالى :
( ذق انك أنت العزيز الكريم) 49 الدخان
وهو في الحقيقـة مهان ذليل معذب في النار فكلا القولين توبيخ لمن قيلا له على ظنهـم أن الأصنام تفعل الخير والشر
وعلى ظن المعذب في نفسه في الدنيا أنه عزيز كريم ولم يقل إبراهيم هذا على أنه محقق لأن كبيرهم فعله إذا كذب إنما هـو
الأخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليـه قصـد إلى تحقيق ذلك0
ـ وأما قوله عليه السلام إذ رأى الشمـس والقمر : هذا ربي فقال قوم أن إبراهيم عليه السـلام قال ذلك محققا أول خروجه من الغار وهذا خرافة موضوعة مكذوبة ظاهرة الافتعال ومن المحال الممتنع أن يبلغ أحد حد التميز والكلام بمثل هذا وهو لم ير قط شمسا ولا قمرا ولا كوكبـا وقد اكذب الله هذا الظن الكاذب0
بقوله الصادق سبحانه وتعالى:
( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ )51الانبياء
فمحال أن يكون من أتاه الله رشده من قبل يدخل في عقله أن الكواكب ربـه أو أن الشمس ربه من أجل أنهـا أكبر قرصا من القمر هذا ما لا يظنه إلا مجنون العقــل0
ـ والصحيح من ذلك أنه عليه السلام إنما قال ذلك موبخــا لقومه كما قال لهم نحو ذلك في الكبير من الأصنام ولا فرق لأنهم كانوا على دين الصابئين يعبدون الكواكب ويصورون
الأصنام على صورها وأسمائها في هياكلهم ويعيدون لها الأعياد ويذبحون لها الذبائح ويقربون لها القرب والقرابـيـن ويقولون
إنها تعقل وتدبر ويقيمون لكل كوكب منها شريعــة محدودة
فوبخهم الخليل عليه السلام على ذلك وسخر منهم وجعل يريهم تعظيـم الشمس لكبر جرمها كما قال تعالى:
( فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون) 34 المطففين
فأراهم ضعف عقولهم في تعظيمهم لهذه الأجرام المسخـرة الجمادية وبين لهم أنهم مخطئون وأنها مدبرة تنتقل في الأماكن ومعاذ الله أن يكون الخليل عليه السلام أشـرك قط بربه أو شك في أن الفلك بكل ما فيه مخلوق وبرهان قولنا هذا أن الله تعالى لم يعاتبه على شيء مما ذكر ولا عنفه على ذلك بل صدقه تعالى بقوله:
(وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومـه نرفع درجات من نشاء) 83 الأنعام
فصح هذا بخلاف ما وقع لآدم وغيره بل وافـق مراد الله عز وجل بما قال من ذلك وبما فعل0
وأما قوله تعالى عن قوله عليه السلام:(رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكـن ليطمئن قلبى
فلم يقرره ربنا عز وجل وهو يشك في إيمان إبراهـيم عبده
وخليلـه ورسوله عليه السلام تعالى الله عن ذلك ولكن تقريـر
الإيمان في قلبه وأن لم ير كيفيـة إحياء الموتى فأخبر عليه السلام عن نفسـه أنه مؤمن مصدق وإنما أراد أن يرى الكيفية فقط ويعتبر بذلك وما شك إبراهيم عليه السلام في أن الله تعالى يحيي الموتى وإنما أراد أن يرى الهيئة كما أننا لا نشك في صحة وجود الفيل والتمساح والكسوف ثم يرغب من لم ير ذلك منا في أن يرى كل ذلك ولا يشـك في أنه حق لكن ليرى العجب الذي يتمثله ولم تقع عليه حاسة بصره فقط0
وأما ما روى عن النبي صلى الله عليه وسم نحن أحق بالشك من إبراهيم فمن ظن أن النبي صلى الله عليه وسلـم شك قط في قدرة ربه عز وجل على إحياء الموتى فقد كفـر وهذا الحديث حجة على نفي الشك عن إبراهيــم أي لو كان الكلام من إبراهيم عليه السلام شكا لكان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم عليه السلام أحق بالشك فإذا كان من لم يشاهـد من القدرة ما شاهـد إبراهيم غير شاك فإبراهيم عليه السلام أبعد من الشك0
ـ وذكروا قول إبراهيم عليه السلام لأبيه واستغفاره له0
وهذا لا حجة لهم فيه لأنه لم يكن نهى عن ذلك 0
قال تعالى:( فلما تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْه) 114 التوبةُ
فصح أن استغفار إبراهيم لأبيه إنما كان مدة حياته راجيا إيمانه فلما مات كافرا تبرأ منه ولم يستغفر له بعدها0
تم الكلام في إبراهيم عليه السلام
ــــــــــــــــــــــــــ












الكلام في لوط عليه السلام
واعترضوا على لوط عليه السلام في الأتى0
وذكروا قول الله تعالى في لوط عليه السلام أنه قال :
(لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) 80 هود
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله لوطا لقــد كان يأوي إلى ركن شديد فظنوا أن هذا القول منه عليـه السلام إنكار على لوط عليه السلام 0
(هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) 78 هود
أما قوله عليه السلام في قول الله تعالى :
لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) 80 هود
فليس مخالفا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد00 بل كلا القوليـن منهما عليهما السلام حق متفق عليه0
لأن لوطا عليه السلام إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش 0 وما جهل لوط عليه السلام أنه يأوي من ربه تعالى إلى أمنع قوة وأشد ركن0 ولا جناح على لوط عليه السلام في طلب قوة من الناس فقد قال الله تعالى:
وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ
اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ 251البقرة
فهذا الذي طلب لوط عليه السلام0
وقد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار والمهاجرين منعة حتى يبلغ كلام ربه تعالى فكيف ينكر على لوط أمرا هو فعله عليه الســلام فوالله ما أنكر ذلك رسـول الله عليه وسلم وإنما أخبر عليه السلام أن لوطا كان يأوي إلى ركن شديد يعني من نصر الله له بالملائكـة ولم يكن لوط يعلم ذلك0
ومن اعتقد أن لوطا كان يعتقد أنه ليس له من الله ركـن شديد فقد كفر 0
وأما قوله عليه السلام في قول الله تعالى:
(قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) 78 هود
فإنما أراد التزويج والوطء في المكان المباح ا ذ من المحال أن يدعوهم إلى منكر وهو ينهاهم عن المنكـر0
انتهى الكلام في لوط عليه السلام
ــــــــــــ



الكلام في أخوة يوسف عليه السلام
احتجوا بفعل أخوه يوسف وبيعهم أخاهم وكذبهم لأبيهـم وهذا لا حجة لهم فيه لأن أخوة يوسف عليه السلام لم يكونوا أنبياء ولا جاء قط في أنهم أنبيـاء نـص لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا من إجماع ولا من قول أحد مـن الصحابة رضي الله عنهم0
وأما يوسف صلى الله عليه وسلم فرسول الله بنص القرآن0
قال الله عز وجل:
(ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به) إلى قوله ( من بعده رسولا به) 34 غافر
وأما إخوته فأفعالهم تشهد أنهم لم يكونـوا متورعين عـن فعل المعاصي فكيف يكونوا أنبياء0
ولكن الرسولين أباهم وأخاهم قد استغفرا لهم وأسقطـا التثريب عنهم0
وبرهان ما ذكرنا من كذب من يزعم أنهــم كانوا أنبياء قول الله تعالى: حاكيا عن الرسول أخيهم عليـه السلام أنه قال لهم : (أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانا) 77 يوسف
ولا يجوز أن يقولـه نبي من الأنبياء ولا لقوم صالحين إذ توقير
الأنبياء فرض على جميع الناس لأن الصالحين ليسوا شرا وأخوه يوسف لم يكفـروا ولا يحل لمسلم أن يدخل فـي الأنبياء من لم يأت به نص ولا إجماع بصحة نبوته0
******************














الكلام في يوسف عليه السلام
وذكروا أيضا :
ـ أخذ يوسف عليه السلام أخاه وإيحاشه أبـاه عليه
ـ وأنه أقام مدة يقدر فيها على أن يعرف أباه خبره وهو يعلم ما يقاسى به من الوجد عليه فلم يفعل وليـس بينه وبين أبيه إلا عشر ليال0
ـ وبإدخاله صواع الملك في وعاء أخيه ولم يعلم بذلك سائر إخوته وأمر الهاتف أن يهتف فيهم بقوله تعالى: ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) 70 يوسف
وهم لم يسرقوا شيئا !!
ـ ويقول الله تعالى:( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) 24 يوسف
ـ وبخدمته لفرعون0
ـ وبقوله للذي كان معه في السجن:
(أذكرني عند ربك) 42 يوسف وكل هذا لا حجة لهم في شـيء منه ونحن نبين ذلك بحول الله تعالى وقوته0

فنقول وبالله تعالى نتأيد :
ـ إما أخذه أخاه وإيحاشه أباه منه فلا شك في أن ذلك ليرفق بأخيه وليعود أخوته إليه ولعلهم لو مضوا بأخيه لم يعودوا إليه وهم في مملكة أخرى وحيث لا طاعة ليوسف عليه السلام ولا لملك مصـر هنالك00 وليكون ذلك سببا لاجتماعه وجمع شمل جميعهم ولا سبل إلى أن يظن برسول الله صلى الله عليه وسلـم يوسف الذي أوتي العلم والمعرفة بالتأويل إلا أحسن الوجوه ولا يحل أن يظـن بمسلـم فاضل عقوق أبيه فكيف برسول الله يوسف صلى الله عليه وسلم0
ـــــــــ
ـ وأما ظنهم أنه أقام مدة يقدر فيها علي تعريف أبيه خبره ولم يفعل فهذا جهل شديد ممن ظن هذا00 لأن يعقوب عليه السلام في أرض كنعان من عمل فلسطين في قوم رحالين في لسان آخر وطاعـة أخرى ودين آخر وأمـة أخرى فلم يكن عند يوسف عليه السـلام علم بعد فراقه أباه بما فعل ولا حي هو أو ميت أكثر من وعد الله تعالى بأن ينبئهم بفعلتهم به ، ولا وجد أحدا يثق به فيرسـل إليه للاختلاف الذي ذكرنا 0
ولكن كما قدمنا دليل ذلك أنه حين أمكنه إخبار أبيه بمكانة لم
يؤخره واستجلب أباه وأهله أجمعين عند ضرورة الناس إليه انقيادهـم له للجوع الذي كان عم الأرض فانتظر وعد ربه تعالى الذي وعده حين ألقوه في الجب فأتوه ضارعين راغبين كما وعده تعالـى في رؤياه من قبل آن يأتوه0
ـــــــــــ
ـ وأما قول يوسف لإخوته أنكم لسارقـون وهم لم يسرقـوا الصواع بل هو الذي كان قد أدخــله في وعاء أخيه فقد صدق عليه السلام لأنهم سرقـوه من أبيه وباعوه ولم يقل عليه السلام أنكم سرقتـم الصواع وإنما قال تفقد صواع الملك وهو في ذلك صادق لأنه كان غير واجد لـه كان فاقد له بلا شك0
ـــــــ
ـ وأما خدمته عليه السلام لفرعون فإنماهى خدمة تقـية ولعل الملك أو بعض خواصه قد آمن به إلا أن خدمته له على كل حال حسنة وفعل خير وتوصل إلى الاجتماع بأبيه وإلى العدل وإلى حياة النفوس إذ كان لم يقدر على المغالبة ولا أمكنة
غير ذلك ولاشك في أن ذلك كان مباحا في شريعة يوسف عليه السلام بخلاف شريعتنا0
قال الله تعالى :
( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) 48 المائدة
ـــــــــــــ
ـ وأما سجود أبويه فلم يكن محظورا في شريعتهما بل كان فعلا حسنا وتحقيق رؤياه الصادقة من الله تعالـى ، ولعـل ذلك السجود كان تحية كسجود الملائكة لآدم عليه السلام إلا أن الذي لا شك فيه أنه لم يكن سجود عبادة ولا تذلل وإنما كان سجود كرامة فقط بلا شك0
ـــــــ
ـ وأما قوله عليه السلام للذي كان معه في السجن :
(اذكرني عند ربك) 42 يوسف فما علمنا الرغبة في الانطلاق من السجن محظـورة على أحد وليس في قولــه ذلك دليل على أنه أغفل الدعاء إلى الله عز وجل لكنه رغب هذا الذي كان معه في السـجن في فعــل الخيـر وحضه عليه وهذا فرض من وجهين:
أحدهمـا: وجوب السعي في كف الظلم عنه0
والثاني : ـ دعاؤه إلى الخير والحسنات0

وأما قوله تعالى:
(فأنساه الشيطان ذكر ربه) 42 يوسف
فالضمـير الذي في أنساه وهو( الهاء) راجع إلى الفتي الذي كان معـه في السجن أي إن الشيطان أنساه أن يذكر أمر يوسف عليه السلام عند ربه0
ويحتمل أيضا أن يكون أنسـاه الشيطان ذكر الله تعالى ولو ذكر الله عز وجل لذكر حاجـة يوسف عليه السلام0
وبرهان ذلك قول الله عز وجل :
(واد كر بعد أمة ) 45 يوسف
فصح يقينا أن المذكور بعد أمة هو الذي أنساه الشيطان ذكر ربه حتى تذكر وحتى لو صح أن الضمير من أنساه راجـع إلى يوسف عليه السلام لما كان في ذلك نقص ولا ذنب إذ ما كان بالنسيان فلا يبعد عن الأنبياء0
ـــــــــــــــ
وأما قوله تعالى :
(هـمت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) 24 يوسف
فليس كما ظن من لم يمعن النظر حتى قال من المتأخرين من قال انه قعد منها مقعـد الرجل من المرأة ومعاذ الله من هذا أن يظن
برجل من صالحـي المسلمـين فكيف برسول الله يوسف صلـى الله عليه وسلم0 فإن قيل إن هذا قد روى عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق جيدة الإسناد00 قلنا نعم ولا حجـة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط والوهم في تلك الروايــة إنما هي بلا شك عمن دون ابن عباس أو لعل ابن عباس لم يقطع بذلك إذ إنما أخذه عمن لا يدري من هو ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحال أن يقطع ابن عباس بما لا علم له به0
لكن معنى الآية لا يعدو أحد وجهين:
الوجه الأول : أما انه هم بالإيقاع بها وضربها كما قال تعالـى : (وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه) 5 غافر
وكما يقول القائل لقد همت بك0
لكنـه عليه السـلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها وعـلم أن الفرار أجدى عليه واظهر لبراءته على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بأمر القد من القميص0
والوجه الثاني: ـ أن الكلام تم عند قوله ولقد همت به ثم ابتدأ الله خبرا أخر فقال سبحانه وتعالى:
(وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) 24 يوسف
وهذا ظاهر الآية بلا تكلف تأويل وبهذا نقول 0
حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي.. حدثنا ابن عون الله أنبأنا إبراهيم ابن احمد بن فراس.. حدثنا أحمد بن محمد بن سالـم النيسابوري.. انا اسحق بن ر اهويه ..أنا المؤمل ابن إسماعيل الحميري حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلـى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) 52 يوسف
قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم لما قالها يوسف عليه السلام قال له جبريل عليه السلام : يا يوسف اذكر همك0
فقال يوسف وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء0
فليس في هذا الحديث على معنى من المعاني تحقيق الهم بالفاحشة ولكنه فيه أنه النفس تأمر بالسوء وهذا حق كمـا قلنا فسقط هذا الاعتراض وصح الوجه الأول والثاني معا0
إلا أن الهم بالفاحشة باطل مقطوع على كل حال وصح أن ذلك الهم ضرب سيدته وهي خيانة لسيده إذ هم بضرب امرأته0
وبرهان ربه ها هنا : هو النبوة وعصمة الله عز وجـل إياه ولولا البرهان لكان يهم بالفاحشـة وهذا لا شك فيه ولعل من
ينسب هذا إلى النبي المقدس يوسف ينزه نفسـه الرذيلة عن مثل هذا المقام فيهلك وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلـم الهلاك على من ظن به ذلك الظن إذ قال للأنصاريين حين لقيهما هذه صفية0
ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف عليه السلام هم بالزنا وهو يسمع قول الله تعالى :
كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) 24 يوسف
فنسأل من خالفـنا عن الهم بالزنا هل هو بسوء أم غير سوء فلا بد أنه سوء ولو قال أنه ليس بسوء لعاند الإجماع فإذ هو سوء وقد صرف عنه السوء فقد صرف عنه الهم بيقين وأيضا فإنها قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا وأنكر هو ذلك فشهد الصادق إن كان قميصـه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فصح أنها كذبت بنص القرآن وإذا كذبت بنص القرآن فما أراد بها سوء فما هم بالزنا قط ولو أراد بها الزنا لكانت من الصادقـين وهذا بين جدا 0
وكذلك قوله تعالى عنه أنه قال:
(وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن 32 ،33 يوسف
فصـح عنه أنه لم يصب إليها ولا إلى غيرها من النساء
ــــــــــــــــــ
شرح معنى الهم كما ورد في كتاب تنزيه الأنبياء
*******************************
الذي ينبغي أن نقدم له أولا:
الإعلام بأن يوسف عليه السلام كان نبيا قبل المراودة0
والهم والدليل على ذلك أنه لو لم تثبت نبوته قبل ذلك لم تهتم الأمة بذكر همه لأن العصمة المجمـع عليها لا تشترط للنبي إلا بعد ثبوت نبوته لا قبلها0
وأما إثبات نبوته قبل همه من الكتاب فمن قوله تعالى:
( ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما) 22يوسف
وأجمعوا على أن هذا الحكم والعلم في حق يوسف عليه السلام أنهما النبوة ...
ثم قال تعالى بعدما ذكر الحكم والعلم :
( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك ) 23 يوسف
وأما همه: فأول ما ينبغي أن نقدم أن الهم في اللسان هوا الإرادة لاغير0
فإن سمي الفعل( هما ) فمجاز من باب تسميـة الشيء باسم الشيء إذا قاربه أو كان منه بسبب0
فلما كانت الأفعال مرتبطـة بالإرادة التي هي الهم سميت هما وذلك لأن الهم الحقيقي محله القلب وهو غير محسوس فلما لم ندركه بالحواس لم نعلمه فإذا أدركنا أسبابه الدالة عليه بالحواس قلنا هم أي فعل أفعالا دلت على همه بها في باطنه فثبت أن الهم الحقيقي هو الإرادة لا الفعل أو هو الشروع في الأمر ولم يفعله0
جاء في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:
من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنـة فإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملهـا لم تكتب شيئا فإن عملها كتبت سيئة واحدة 0
فهذا أدل على أن الهم غير الفعل0
فأخبر سبحانه وتعالى أنه هم ولم يفعل
وقد ذكرها الهمداني وغيره في شرح قصة يوسف عليه السلام على أن : الهم في اللسان هو الخاطر الأول..
فإذا تمادى سمي إرادة وعزما..
فإن لم يعترضه نقيض سمي نية ..

فصل :
ـ فإن قيل فما الحق الذي يعول عليه في هذا الهم ؟
فنقول أولا : إن بعض الأئمة ذكروا أن الإجماع منعقد على عصمة بواطن الأنبياء من كل خاطر وقـع فيه النهي0
وللمحققين أقوال في هذا الهم نذكر المختار منها إن شاء الله تعالى : فمنهم من قال إن في الكلام تقديما وتأخيرا0
وترتيبه : أن يكون ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها0
ويكون البرهان هنا النبوة والعصمـة وما كاشف من الآيات وخوارق العادات والتقديم والتأخير في لسان العرب سائغ0
ـ ومنهم من قال هم بحكم البشرية مع الغفلة عن ارتكاب النهي ثم ذكره الله تعالى الإيمان وتحريم المعصية وشؤمها والوعيد عليها وهو البرهان الأعظم فصرف عنه السوء والفحشاء ولذا قال بعضهم : ( هم وما تم لأن العناية من ثم )
ومنهم من قال كاد أن يهم لولا العصمة السابقـة فيكون الهم هنا مجازا0
وأقول : إنه إن كان هم بهـا ولم يفعــل فلا لوم ولا ذنب

بدليـل الحديث المتقدم الذي منه قوله عليه السلام:ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا0
معناه لم يكتب له صغيرة ولا كبيـرة0
وجاء في حديث آخر أن تارك الخطيئة من أجل الله تكتب له حسنة بدليل قوله تعالى : ـ للملائكة اكتبوها له حسنـة فإنما تركها من جراي أي من أجلي وهذا ينظر إلى قول الله تعالـى : ــ فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وإذا كان هذا في حق المؤمن فالأنبياء عليهم السـلام أولى بهذا الترك لا محالـة ، كيف وقد أثنى الله تعالــى عليه ونزهه بقوله عندما قالت في قول الله تعالى : هيت لك) 23 يوسف
رد عليها قائلا في قول الله تعالى :معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمـون) 23يوسف
فهذا مما يدل على أنه تركها من أجل الله وأنه مأجـور في تركها0
وإذا كان هذا فلا ذنب ولا عتاب يلحق يوسف عليه السـلام صغيرا ولا كبيرا بل يكون مأجورا في الترك0
فهذه أقوال تليق بنبي الله يوسف عليه السلام0
فإن قيل فإذا لم يتصور في حق يوسف عليه السـلام ذنب ولا
عتاب فلأي شيء قال بعدما أنصفته امرأة العزيز وأقرت بفعلتهـا في: قول الله تعالى: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي 53يوسف
قلنا : ـ ومن أين لك أن تقول أنه قالها.. والآية تقتضي أنها من قول امرأة العزيز وذلك أنه لما تأدب معها بآداب
الأحرار حيث قال لرسول الملك في قول الله تعالى :( ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) 50 يوسف فخلطها معهن وذكر فعلهن وأضرب عن ذكر فعلها الذي يمس الأعراض ولم يفضحهـا، فتناصفـت هي وأقرت بأنها راودته فقالت في قول الله تعالى : ( وما أبرئ نفس) 53 يوسف
على أنه لو ثبت أنه قالها لخرجت له أحسن مخرج وذلك أنـه لما قال أنصفته بإقرارها وتبرئته قال في قول الله تعالى:
( وما أبرئ نفسي) على أصل الحوار لا على نفس الوقوع كما قال الخليل عليه السلام في قول الله تعالى:
( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) 35 إبراهيم
وهو قد أمن بالعصمة من عبادتها0
وقال تعالى لنبينا عليه الصلاة والسلام :
( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) 86 الإسراء
وهو تعالى قد شاء ألا يذهبه0
والعصمة والنزاهة لسيدنا يوسف عليه السلام ولأنبياء الله ورسله على كمالها من سلامة العقيدة للمسلم0
ــــــــــ
انتهى الكلام في يوسف عليه السلام
ـــــــــــــــــــ









الكلام في موسى عليه السلام وأمه
ـ وذكروا قول الله تعالى:
( وأصبح فؤاد أم موسـى فارغا أن كادت لتبدي به لولا
أن ربطنا على قلبها) 10 القصص
فمعناه فارغا من الهم بموسى جملة لأن الله عز وجل قد وعدها برده إليها إذ قال الله تعالى :
(إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين 7القصص
فمن الباطل المحض أن يكون الله تعالـى ضمن لها رده إليها ثم يصبح قلبها مشغولا بالهم بأمره هذا مالا يظن بذي عقل أصلا وإنما معنى قوله تعالى : أن كادت لتبدي به .. أي سرورا بما أتاه الله عز وجل من الفضل0
ـ وقولها لأخته قصية : إنما هو لترى أخته كيفية قدرة الله تعالى في تخليصه من يدي فرعون عدوه بعد وقوعه فيهما وليتم بها ما وعدها الله تعالـى من رده إليها فبعثـت أخته لترده بالوحي0
ـ وذكروا قول موسى عليه السلام للخضر عليه السلام:
( أقتلت نفسا زكية بغير نفس) 74الكهف
فأنكر موسى عليه السلام الشيء وهو لا يعلمه وقد كان أخذ
عليه العهد أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرا0
فهذا أيضا لا حجة لهم فيه لأن ذلك كان على سبيل النسيان وقد بين موسى عليه السلام ذلك بقوله تعالى :
(لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا) الكهف
فرغب إليه أنه لا يؤاخذه بنسيانه ومؤاخذة الخضر له بالنسيان دليل على صحة ما قلنا من أنهم عليهم السلام مؤاخذون بالنسيان وبما قصدوا به الله عز وجل فلم يصادفوا بذلك مراد الله عز وجل وتكلم موسى عليه السلام على ظاهر الأمر وقدر أن الغلام زكى إذ لم يعلم له ذنبا وكان عند الخضر العلم الجلي بكفر ذلك الغلام واستحقاقه القتل فقصد موسى عليه السلام بكلامة في ذلك وجه الله تعالى والرحمة وإنكار ما لم يعلم وجهه0
ــــــــ
أما قوله عليه السلام عند قتله لرجل قبل فراره من مصر إلى مدين 0في قول الله تعالى :
(فعلتها إذا وأنا من الضالين) 20الشعراء فقول صحيح وهو حاله قبل النبوة فإنه كان ضالا عما اهتدى له بعد النبوة وضلال الغيب عن العلــم كما تقول أضللت
بعيري لا ضلال القصـد إلى الإثم وهكذا قول الله تعالى لنبيه
صلى الله عليه وسلم: (ووجدك ضالا فهدى 7 الضحى أي ضالا عن المعرفة 0
وذكروا قول الله عز وجل عن سؤال بنى اسرئيل رؤية الله فأهلكهم0 وسؤال موسى مثل ذلك لله 0
( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم) 153النساء
قالوا وموسى قد سأل ربه مثل ذلك فقال:
( رب أرني أنظر إليك قال لن تراني) 143 الأعراف
قالوا فقد سأل موسى عليه السلام أمرا عوقب سائلوه قبله0 وهذا لا حجة لهم فيه لأنه خارج على وجهين0
أحدهما : أن موسى عليه السـلام سال ذلك قبل سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى وقبل أن يعلم أن سؤال ذلك لا يجوز فهذا لا مكروه فيه لأنه سأل فضيلة عظيمة أراد بها علو المنزلة عند ربه تعالى 0
والثاني: أن بني إسرائيل سألـوا ذلك متعنتين وشكاكا في الله عز وجل وموسى سأل ذلك على الوجه الحسـن الذي ذكرنا أنفا0
الكلام على يونس عليه السلام
وذكروا أمر يونس عليه السلام وقول الله تعالى له :
( وذا النون إذ ذهب مغاضبـا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)
وقوله تعالى :
( فلولا انه كان من المسبحين ) (للبث في بطنـه إلى يوم يبعثون) 143،144 الصافات
وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :
( فاصبـر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم ) (لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم) 48 ،49 القلم
وقوله تعالى : ( فالتقمه الحوت وهو مليم ) 142 الصافات
قالوا ولا ذنب أعظم من المغاضبة لله عز وجل ومن أكبر ذنبا ممن ظن أن الله لا يقدر عليه وقد أخبر الله تعالى أنه استحق الذم لولا أن تداركه نعمة الله عز وجل وانه استحق الملامة وانه أقر على نفسه أنه كان من الظالمين ونهى الله تعالى نبيه أن يكون مثله 0
هذا كله لا حجة لهم فيه بل هو حجة لنا على صحـة قولنا
والحمد لله رب العالمين0
أما إخبار الله تعالى أن يونس ذهب مغاضبا فلم يغاضب ربه قط ولا قال الله تعالـى أنه غاضب ربه فمن زاد هذه الزيادة كان قائلا على الله الكذب وزائدا في القرآن ما ليس فيه وهذا لا يحل ولا يجوز أن يظن بمن له أدنى مسكة من عقل أنه يغاضب ربه تعالى فكيف أن يفعل ذلك نبي من الأنبياء فعلمنا يقينا أنه إنما غاضب قومه ولم يوافق ذلك مراد الله عز وجل فعوقب بذلك وان كان يونس عليه السلام لم يقصد بذلك إلا رضا الله عز وجل0
أما قوله تعالى : (فظن أن لن نقدر عليه) 87 الأنبياء
فليس علي ما ظنوه من الظن السخيف فمن المحال المتيقن أن يظن نبى آن الله تعالى الذي أرسله بدينه لا يقدر عليـه ومن نسب ذلك إلى نبى الله يونس فقد جهل وأخطأ الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفضلوني على يونس بن متى0
فقد بطل ظنهم بلا شك وصـح أن معنى قوله فظن أن لن نقدر عليه أي لن نضيق عليه كما قال تعالى :
(وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه) 16 الفجر
أي ضيق عليه فظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لا يضيق
عليه في مغاضبته لقومه إذ ظن انه محسن في فعله ذلك0 وإنما نهى
الله عز وجل لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن أن يكون كصاحب الحوت فنعم نهاه الله عز وجل عن مغاضبته قومه وأمره بالصبر على أذاهم وبالمطاولة لهم .
وأما قول الله تعالـى انه استحق الذم والملامة لولا النعمـة التي تداركه بها للبث معاقبـا في بطن الحوت فهذا نفس ما قلناه من أن الأنبياء عليهم السلام يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه مما بظنونه خيرا وقربة إلى الله عز وجـل إذا لم يوافق مراد ربهم 0وعلى هذا الوجه أقر على نفسه بأنه كان من الظالمين0
والظلم وضع الشيء في غير موضعـه فلما وضع النبي يونس صلى الله عليه وسلم المغاضبة في غير موضعها اعترف في ذلك بالظلم لا على أنه قصده وهو يدري أنه ظلم
انتهى الكلام في يونس عليه السلام
ــــــــ





الكلام في داوود عليه السلام
وذكروا أيضا قول الله تعالى حاكيا عن داود عليه السلام :
(وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان) إلى قوله( فغفرنا لـه ذلك 21 ص
وهذا قول صادق صحيح لا يدل على شيء مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بخرافات ولدها اليهـود وإنما كان ذلك الخصم قوما من بني آدم بلا شك مختصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم ، بغى أحدهما على الآخر على نص الآية ومن قال أنهـم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء فقد كذب على الله عز وجل وقوله ما لم يقل وزاد في القرآن ما ليس فيه وكذب الله عز وجل وأقر على نفسه الخبيثة أنه كذب الملائكة لأن الله تعالى يقول: (هل أتاك نبأ الخصم) 21ص
فقالوا هم لم يكونوا قط خصمين ولا بغى بعضهم على بعض ولا كان قط لاحدهما تسـع وتسعون نعجة ولاكان للآخر نعجـة واحدة ولا قال لـه أكفلنيها0
فانظروا إلى ما يقحم فيه أهل الباطل أنفسهم ونعوذ بالله من الخذلان0 ثم كل ذلك بلا دليل،بل افتراء مجرد بل هذه أفعال
السفهاء الفساق لا أفعال أهل البر والتقوى 0
وأما استغفاره وخروره ساجدا ومغفرة الله تعالى له فالأنبياء عليهم السلام أولى الناس بهذه الأفعال الكريمة والاستغفار فعل خير لا ينكر من ملك ولا من نبي ولا من مذنب ولا من غير مذنب0
فالنبي يستغـفر الله لمذنبي أهل الأرض والملائكة كما قال الله تعالى : ( ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمـة وعلما فاغفـر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) 7 غافر
وأما قوله تعالى عن داوود عليه السلام :
( وظن داود أنما فتناه) 24 ص
وقوله تعالى: (فغفرنا له ذلك) 25ص فقد ظن داود عليه السلام أن يكون ما أتاه الله عز وجل من سعة الملك العظيم فتنة فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في أن يثبت الله قلبه على دينه فاستغفر الله تعالى من هذا الظن فغفر الله تعالى له هذا الظن إذ لم يكن ما أتاه الله تعالى من ذلك فتنة 0
انتهى الكلام في داوود عليه السلام
الكلام في سليمان عليه السلام
وذكروا قول الله عز وجل عن سليمان عليه السلام:
(ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب)
ولا حجة لهم في هذا إذ معنى قوله تعالى : فتنا سليمان أي أتيناه من الملك ما اختبرنا به طاعته كما قال تعالى مصدقـا لموسى عليه السلام في قوله تعالى:( إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) 15 الأعراف
إن من الفتنة من يهدى الله بها من يشاء
وقوله تعالى:(ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) 1 ،2 ،3 العنكبوت
فهذه الفتنة هي الاختبار حتى يظهر المهتدي من الضال فهذه فتنة الله تعالى لسليمان إنما هي اختباره حتى ظهر فضله فقط وما عدا هذا فخرافات ولدها اليهود وأشباههم 0
وأما الجسد الملقى على كرسيه فقد أصاب الله تعالى به ما أراد،نؤمن بهذا كما هو ونقول : صـدق الله عز وجل كل من عند الله ،ولو جاء نص صحيح في القرآن أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير هذا الجسـد ما هو لقلنا به فإذا لم يأت
بتفسيره ما هو نص ولا خبـر صحيح فلا يحل لأحد القول بالظن الذي هو أكذب الحديث في ذلك فيكون كاذبا على الله عز وجل إلا أننا لا نشك البتة في بطلان قول من قال انه كان جنيا تصور بصورته بل نقطع على أنه كذب والله تعالى لا يهتك ستر رسولـه سليمان صلى الله عليه وسلم هذا الهتك وكذلك نبعد قول من قال انه كان ولدا له أرسله إلى السحاب ليربيه فسليمان عليه السـلام كان أعلم من أن يربي ابنه بغير ما طبع الله عز وجل بنية البشر عليه من اللبن والطعام وهذه كلها خرافات موضوعة مكذوبة لم يصح إسنادها قط0
وذكروا أيضا قول الله عز وجل عن سليمان عليه السلام:
(إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق 32 ،33 ص
وتأولوا ذلك على ما قد نزه الله عنـه من له أدنى مسكة من عقل من أهل زماننا وغيره فكيف بنبي معصـوم مفضل في أنه قتل الخيل إذا اشتغل بها عن الصلاة0
قال أبو محمد بن حزم وهذه خرافة موضوعة مكذوبة سخيفة باردة قد جمعت أفانين من القول والظاهر أنها من اختراع زنديق بلا شك لان فيها معاقبة خيل لا ذنب لها والتمثيل بها وإتلاف
مال منتفع به بلا معنى ونسبة تضييع الصلاة إلى نبي مرسل ثم يعاقب الخيل على ذنبـه لا علـى ذنبها وهذا أمر لا يستجيزه صبي ابن سبـع سنين فكيـف بنبي مرسل0ومعنى هذه الآية ظاهر بين وهو أنه عليه السلام أخبر أنه أحب حب الخير من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس بالحجاب أو حتى توارت تلك الصافنات الجياد بحجابهـا ثم أمر بردها فطفق مسحا بسوقها وأعناقهـا بيده برا بها وإكراما لها و هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره وليس فيها إشارة أصلا إلى ما ذكروه من قتل الخيل وتعطيل الصلاة وكل هذا قد قاله ثقات المسلمين فكيف ولا حجة في قول أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسـلم0
ـ وذكروا أيضا الحديث الثابت من قول رسول الله صلـى الله عليه وسلم أن سليمان عليه السلام قال لاطوفن الليلة علي كذا وكذا امرأة كل امرأة منهن تلد فارسا يقاتل فـي سبيل الله ولم يقل إن شاء الله0وهذا ما لا حجة لهم فيه فإن من قصد تكثير المؤمنين المجاهدين في سبيل الله عز وجل فقد أحسن ولا يجوز أن يظن به أنه يجهل أن ذلك لا يكون إلا أن يشاء الله عز وجل وقد جاء في نص الحديث المذكــور انه إنما ترك إن شاء الله نسيانا
فأوخذ بالنسيان في ذلك وقد قصـد الخير0
تم الكلام في سليمان عليه الصلاة والسلام
ـــــــــــــــ















الكلام في الملائكة عليهم السلام
قال أبو محمد بن حزم : قد ذكرنا قبل أمر هاروت وماروت ونزيدها هنا بيانا في ذلك وبالله تعالى التوفيق :
ـ أن قوما نسبوا إلى الله تعالى ما لم يأت به قط أثر يجب أن يشتغل به وإنما هو كذب مفترى من أنه تعالى أنزل إلى الأرض ملكين وهما هاروت وماروت وأنهما عصيا الله تعالى وشربا الخمر وحكما بالزور وقتلا النفس وزنيا وعلما زانية اسم الله الأعظم فطارت به إلى السماء فمسخت كوكبا وهي الزهرة ـ وأنهما عذبا في غار ببابل وأنهما يعلمان الناس السحر 0
ـ وحجتهم على ما في هذا الباب خبر رويناه من طريق عمير بن سعيد وهو مجهول مرة يقال له النخعي ومرة يقال له الحنفي ما نعلم له رواية إلا هذه الكذبة وليس أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه أوقفها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه 0
ـ وكذبة أخرى في أن حد الخمر ليس سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هو شيء فعلوه وحاشا لهم رضي الله عنهم من هذا0

قال أبو محمد ابن حزم : ومن البرهان على بطلان هذا كلـه
قول الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ تنزيل من حكيم حميد ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين 0
ـ فقطع الله عز وجل أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق وليس شرب الخمر ولا الزنا ولا قتل النفس المحرمة ولا تعليم العواهر أسماءه عز وجل التي يرتفع بها إلى السماء ولا السحر من الحق بل كل ذلك من الباطل ونحن نشهد أن الملائكة ما نزلت قط بشيء من هذه الفواحش والباطل وإذا لم تنزل به فقد بطل أن تفعله لأنها لو فعلته في الأرض لنزلت به وهذا باطل0
ـ وشهد عز وجل أنه لو أنزل علينا الملائكة لما نظرنا فصح أنه لم ينزل قط ملك ظاهر إلا للنبي بالوحي فقط وبالله تعالى التوفيق0
قال أبو محمد: ـ وكذلك قوله تعالى ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا فأبطل عز وجل أنه يمكن ظهور ملك إلى الناس 0
ـ وقال تعالى ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون فكذّب الله عز وجل كل من قال أن ملكا نزل قط من السماء ظاهرا إلا إلى الأنبياء بالحق من عند الله عز وجل فقط 0
ـ وقال عز وجل وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا
الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين الآية 0
ـ فرفع الله تعالى الإشكال بهذا النص في هذه المسألة وقرن عز وجل نزول الملائكة في الدنيا برؤيته عز وجل فيها فصح ضرورة أن نزولهم في الدنيا إلى غير الأنبياء ممتنع البتة لا يجوز وأن من قال ذلك فقد قال حجرا محجورا أي ممتنعا وظهر بها كذب من ادعى أن ملكين نزلا إلى الناس فعلماهم السحر وقد استعظم الله عز وجل ذلك من رغبة من رغب نزول الملائكة إلى الناس وسمي هذا الفعل استكبارا وعتوا 0
ـ وأخبر عز وجل أننا لا نرى الملائكة أبدا إلى يوم القيامة فقط وأنه لا بشرى يومئذ للمجرمين 0
ـ فإذ لا شك في هذا كله فقد علمنا ضرورة أنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما كما قدمنا قبل:
ـ أما أن هاروت وماروت لم يكونا ملكين وأن ما في قوله وما أنزل على الملكين نفي لأن ينزل على الملكين ويكون هاروت وماروت حينئذ بدلا من الشياطين كأنه قال ولكن الشياطين هاروت وماروت ويكون هاروت وماروت قبيلتان من قبائل

الجن كانتا يعلمان الناس السحر وقد روينا هذا القول عن خالد ابن أبي عمران وغيره وروى عن الحسن البصري أنه كان يقرأ على الملكين بكسر اللام وكان يقول أن هاروت وماروت علجان من أهل بابل إلا أن الذي لا شك فيه على هذا القول أنهما لم يكونا ملكين وقد اعترض بعض الجهال فقال لي أبلغ من رفق الشيطان أن يقول للذي يتعلم السحر لا تكفر فقلت له هذا الاعتراض يبطل من ثلاث جهات أحدهما أن نقول لك وما المانع من أن يقول الشيطان ذلك إما سخريا وإما لما شاء الله فلا سبيل لك إلى دليل مانع من هذا والثاني أنه قد نص الله عز وجل على أن الشيطان قال أني أخاف الله فقال تعالى وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وأني جار لكم إلى قوله تعالى إني أخاف الله والله شديد العقاب وقال تعالى كمثل الشيطان إذ فال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إتي أخاف الله رب العالمين فقد أمر الشيطان الإنسان بالكفر ثم تبرأ منه وأخبره أنه يخلف الله وغر الكفار ثم تبرأ منهم وقال إني أخاف الله بين أن يقول الشيطان للإنسان اكفر ويغره ثم يتبرأ منه ويقول إني أخاف اله وبين أن يعلمه السحر ويقول له لا تكفر والثالث أن معلم السحر بنص الآية قد قال للذي يتعلم منه لا
تكفر فسواء كان ملكا أو شيطانا قد علمه على قولك ما لا يحل وقال له لا تكفر فلم تنكر هذا من الشيطان ولا تنكره بزعمك من الملك وأنت تنسب إليه أن يعلم السحر الذي عندك ضلال وكفر وأما أن يكون هاروت وماروت ملكين نزلا بشريعة حق بعلم ما على أنبياء فعلماهم الدين وقالا لهم لا تكفروا نهيا عن الكفر بحق وأخبراهم أنهم فتنة يضل الله تعالى بهما وبما أتيا به من كفر به ويهدي بهما من آمن به قال تعالى عن موسى أنه قال له إن هي ألا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء وكما قال تعالى ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ثم نسخ ذلك الذي أنزل علي الملكين فصار كفرا بعد أن كان إيمانا كما نسخ تعالى شرائع التوراة والإنجيل فتمادت الجن على تعلم ذلك المنسوخ وبالجملة فما في الآية من نص ولا دليل على أن الملكين علما السحر وإنما هو إقحام أقحم بالآية بالكذب والإفك بل وفيها بيان أنه لم يكن سحرا بقوله تعالى ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل ولا يجوز أن يجعل المعطوف والمعطوف عليه شيئا واحدا إلا ببرهان من نص أو اجماع أو ضرورة وإلا فلا أصلا وأيضا فإن بابل هي الكوفة وهي بلد معروف بقربها محدودة معلومة ليس
فيها غار فيه ملك فصح أنه خرافة موضوعة إذ لو كان لك لما خفي مكانهما على أهل الكوفة فبطل التعلق بهاروت وماروت
والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد وقد ادعى قوم أن إبليس كان ملكا فعصى وحاشا لله من هذا لأن الله تعالى قد كذب هذا القول بقوله تعالى إلا إبليس كان من الجن وبقوله افتتخذونه وذريته أولياء من دوني ولا ذرية للملائكة وبقوله تعالى إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم وبإخباره أنه خلق إبليس من نار السموم وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خلقت الملائكة من نور والنور غير النار بلا شك فصح أن الجن غير الملائكة والملائكة كلهم خيار مكرمون بنص القرآن والجن والإنس فيهما مذموم ومحمود فإن قال قائل أن الله عز وجل ذكر أنهم قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك وهذا تزكية لأنفسهم وقد قال تعالى ولا تزكوا أنفسكم قلنا وبالله تعالى التوفيق مدح المرء نفسه ينقسم قسمين أحدهما ما قصد به المرء افتخارا بغيا وانتقاصا لغيره فهذه هي التزكية وهو مذموم جدا والآخر ما خرج مخرج الإخبار بالحق كقول رسول الله صلى اله عليه وسلم أنا سيد ولد آدم ولا فخر وفضلت على الأنبياء
وكقول يوسف عليه السلام اجعلني على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم ولا يسمي هذا تزكية ومن هذا الباب قول الملائكة ههنا برهان هذا إنه لو كان قولهم مذموما لأنكره الله عز وجل عليهم فإذا لم ينكره الله تعالى فهو صدق ومن هذا الباب قولنا نحن السلمون ونحن خير أمة أخرجت للناس وكقول الحواريين نحن أنصار الله فكل هذا إذا قصد به الحض على الخير لا الفخر فهو خير فإن قال قائل إن الله تعالى قال لهم إني أعلم ما لا تعلمون قلنا نعم وما شك الملائكة قط أن الله تعالى يعلم ما لا يعلمون وليس هذا إنكارا وأما الجن فقد قلنا أنهم متعبدون بملة الإسلام وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الروث والعظام طعام إخواننا من الجن وهذا بخلاف حكمنا فقد يخصهم الله عز وجل بأوامر خلاف أوامرنا كما للنساء شرائع ليست للرجال من الحيض وقطع الصــلاة وغير ذلك وكما لقريش
الإمامة وليست لغيرهم وكل ذلك دين الإسلام0
وبالله تعالى التوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل0
ـــــــــــــــــ


خاتمة
اعلم أخي المسلم أنه من سلامة العقيدة تنزيه الأنباء عن المعاصي والذنوب وتوقيرهم والذود والدفاع عنهم وعدم الاستهزاء بما جاءوا به من عند الله وبما شرعوه للناس 0 واعلم أخي المسلم أنه من سولت له نفسه أن يظن بنبي من أنبياء الله أنه عصى الله عمدا في صغيرة أو في كبيرة فليراجع عقيدته فان استمرأ ذلك واستحله فقد كفر إجماعا ومن عاد عن ذلك فان الله تواب رحيم 0 وقد أوضحت في هذه المذكرة أن ما وقع من الأنبياء من ذنوب فكان إما أن يكون عن طريق السهو ونبههم الله على ذلك وإما أن يكونوا قاصدين فيه الخير ورضا الله ولم يكن على مراد الله ونبههم الله على ذلك 0
نفعنا الله وإياكم بهذه المذكرة الموجزة في عصمة الأنبياء والرسل عن المعاصى0
واللهم انى بلغت اللهم فاشهد
وصل اللهم على سيدنا مجمد وعلى اله وصحبه وسلم تسليما كثيرا0


طبع للمؤلف
ـ معجم فعل الأمر في القرآن الكريم0
ـ معجم الفعل الماضي في القرآن الكريم ثلاثة أجزاء0
ـ معجم لا الناهية في القرآن الكريم0
ـ إن الدين عند الله الإسلام 0
ـ 55 سؤال في الفقه0
ـ ختان الإناث0
ـ الإجهاض ومقدار دية الجنين0
ـ الطلاق السني 0
ـ إقامة حدود الله ضرورة لإصلاح الأمة 0
ـ عصمة الأنبياء 0

*****************





المصادر
الفصل في الملل والنحل لابن حزم
تنزيه الأنبياء لأبى الحسن السبتى الأموي
النبوات لابن تيمية
تفسير ابن كثير
*********************












الفهرس
م الموضوع صفحة
1 المقدمة 3
2 الكلام في ادم عليه السلام 13
3 الكلام في نوح عليه السلام 27
4 الكلام في إبراهيم عليه السلام 35
5 الكلام في لوط عليه السلام 42
6 الكلام عن إخوة يوسف ليه السلام 44
7 الكلام عن يوسف عليه السلام 46
8 شرح معنى الهم 54
9 الكلام عن موسى عليه السلام وأمه 60
10 الكلام عن يونس عليه السلام 63
11 الكلام عن داوود عليه السلام 66
12 الكلام عن سليمان عليه السلام 68
13 الكلام عن الملائكة عليهم السلام 72
14 خاتمة 79
رقم الإيداع بدار الكتب المصرية 5108/2008
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

ليست هناك تعليقات: